"ماراثون" الإصلاح الاقتصادى يقترب من "الختام".. بقلم: عبدالمحسن سلامة
قبل 3 سنوات، وبالتحديد قبل شهر نوفمبر 2016، كان الجدل قد وصل إلى ذروته حول وجود مشكلات ضخمة فى سعر الصرف للعملات الأجنبية، وكان السعر الرسمى للدولار الأمريكى أمام الجنيه يتراوح بين 8.83 و8.88 جنيه للشراء والبيع، غير أنه لم يكن هناك دولار موجود فعليا فى البنوك، وكان من المستحيل الوفاء باحتياجات الواردات الضرورية، وكان الأمر يتطلب تدخلا على أعلى مستوى لتوفير السيولة الضرورية اللازمة لاستيراد الاحتياجات الفعلية والضرورية للأسواق من أدوية وأغذية ومستلزمات إنتاج، أما القطاع الخاص ورجال الأعمال فلم يكن أمامهم سوى اللجوء إلى السوق السوداء لتدبير احتياجاتهم من النقد الأجنبي، وكانت الأسعار تتفاوت حسب طبيعة كل حالة، وسجل الدولار فى السوق السوداء 10.50 جنيه خلال ذلك التوقيت، إلا أنه بعد أن كسر الدولار حاجز الـ10 جنيهات بدأ يقفز قفزات عنيفة نحو المجهول بسبب مضاربات التجار وألاعيب السوق السوداء، ودار الحديث همسا فى البداية عن ضرورة تحرير سعر الصرف، فلا يمكن على الإطلاق الاستمرار فى تلك السياسة المتناقضة، وفعلا كان عام 2016 هو العام الأصعب فى تاريخ الجنيه المصري، حيث كان السعر الرسمى فى بدايته فى حدود الـ7 جنيهات، إلا أنه قفز بعدها عدة قفزات خسر فيها الجنيه المصرى ما يقدر بنحو 185% من قيمته أمام الدولار. دار جدول واسع فى ذلك التوقيت حول السعر العادل، وضوابطه، وكيفية الوصول إليه فى حالة اتخاذ قرار تحرير سعر الصرف، وانقسمت الآراء بين مؤيد ومعارض لتحرير سعر الصرف بحسب المدارس الاقتصادية للخبراء من ناحية والمصالح والأهواء للمضاربين والتجار ورجال الأعمال من ناحية أخرى، فهناك من كان يرفض نتيجة أفكار أيديولوجية خاطئة، أو خشية وقوع ما لا يحمد عقباه من المفاجآت والانتكاسات، وكان هناك أيضا الحيتان الكبار من تجار العملة الذين كانوا يستنزفون الاقتصاد المصرى لمصلحتهم، وكانت نسبة كبيرة من الدعم الحكومى تدخل جيوبهم مباشرة، بعد أن تحول الدعم الاقتصادى إلى دعم للعملة، وانتشرت "الدولرة" وأصبحت كالوباء القاتل، وكان الكل يتسابق على شراء الدولار وتخزينه، باعتباره أسرع وسيلة للثراء السريع. فى ذلك التوقيت كان الرئيس عبد الفتاح السيسى قد عقد العزم على إطلاق برنامج الإصلاح الاقتصادى الذى لن يتحقق إلا بتحرير سعر الصرف وإطلاق الحرية للبنوك فى تسعير النقد الأجنبى وفقا لآلية العرض والطلب. كان الحديث وقتها يدور حول السعر العادل للدولار، وهل هو 14 جنيها أم أقل أم أكثر، جاء قرار البنك المركزى الحاسم والقاطع فى 3 نوفمبر 2016 بتحرير سعر الصرف، وقرر البنك المركزى آنذاك اتخاذ عدة إجراءات أشبه بقرارات الحرب لتصحيح سياسة تداول النقد الأجنبى من خلال تحرير أسعار الصرف وإعطاء مرونة للبنوك العاملة فى مصر لتسعير شراء وبيع النقد الأجنبى بهدف استعادة تداوله داخل القنوات الشرعية، وإنهاء السوق السوداء للنقد الأجنبى إلى الأبد، اتساقا مع المنظومة الإصلاحية المتكاملة التى تضمنت برنامج الهيكلة للمالية العامة، وحزمة من الإصلاحات النقدية والمالية المتكاملة. وضع البنك المركزى فى البداية سعرا استرشاديا فى حدود 13 جنيها مقابل الدولار، بزيادة 46% دفعة واحدة على السعر الرسمى الذى كان معلنا، إلا أن البنك المركزى أطلق الحرية للبنوك فى توفير النقد الأجنبى من خلال آلية الإنتربنك. بدأ الدولار يقفز قفزات مجنونة وصلت إلى 20 جنيها، بزيادة 53% على السعر الاسترشادى فى أول يوم من عملية التعويم، إلا أنه سرعان ما عادت الأمور إلى نصابها، بعد امتصاص الصدمة الأولى، وثبات الحكومة والبنك المركزى فى المواجهة. أصيبت السوق السوداء فى مقتل نتيجة التعامل الذكى من البنك المركزى والحكومة معا فى هذا الملف الشائك، ونجح البنك المركزى فى وضع خطة رادعة للتعامل مع الأزمة، ومن خلال تلك الخطة عاد الهدوء إلى الأسواق وعادت العملات الأجنبية مرة أخرى إلى مسارها الطبيعى فى البنوك، وبدأت تحويلات المصريين وعوائد السياحة تزداد من جديد، ليبدأ الدولار خلال الشهور القليلة الماضية، ولأول مرة منذ بداية رحلة الصعود، فى الهبوط التدريجي. بعد صدمة التحرير الأولى ووصوله إلى ما يقرب من 20 جنيها؛ قد انخفض ليستقر عند حدود 18 جنيها، إلا أنه ومنذ حوالى شهرين بدأ يهبط ليكسر حاجز الـ17 جنيها، والآن وصل فى آخر تعاملاته فى الأسبوع الماضى إلى 16.50 جنيه، ليستعيد جزءا مما فقده طوال السنوات الماضية. هذه المرة لم يستعد الجنيه قوته بقرار سياسي، وإنما نتيجة أوضاع اقتصادية طبيعية ومستقرة وطبقا للمؤشرات الاقتصادية العالمية التى لا تعرف المجاملة أو الحسابات السياسية. آخر هذه التقارير ما صدر عن البنك الدولى الذى أطلق تقرير مرصد الاقتصاد المصرى الأسبوع الماضى، والذى أشاد فيه بما قامت به الحكومة المصرية من تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي، وكانت أهم تلك الإصلاحات تحسين مناخ الأعمال، وجذب الاستثمارات الخاصة، وبرنامج الإصلاحات التشريعية التى تمثلت فى إقرار قوانين الاستثمار، وإعادة الهيكلة والصلح الواقى والإفلاس، وأشار التقرير إلى أن الموجة التالية من الإصلاحات الاقتصادية ستكون ركائزها استقرار الاقتصاد الكلى، وإتاحة المزيد من الفرص لمشاركة أوسع للقطاع الخاص فى الاقتصاد، وتزويد القوى العاملة بالمهارات اللازمة لممارسة النشاط الاقتصادى بشكل أفضل، مما ينعكس بالإيجاب على القدرة التنافسية للاقتصاد المصري، والأهم من ذلك ـ كما أكد التقرير ـ إيجاد المزيد من فرص العمل، وتحسين ظروف المعيشة للمواطنين. قبل الإصلاح الاقتصادى كان الاستهلاك هو المحرك الأساسى للنمو، أما بعد الإصلاح فقد تغير الأمر وأصبحت الاستثمارات وصافى الصادرات هما المحركان الأساسيان للنمو بدلا من الاستهلاك، ليرتفع معدل النمو من 3.5% فى الفترة من 2013 ـ 2016 إلى 4.2% 2016/ 2017، ثم 5.3% 2017/ 2018، وأخيرا 5.4% فى النصف الأول من العام المالى الماضى 2018/ 2019.
Ahmed
الميزة الأساسية فى هذه المؤشرات هى التصاعد التدريجى المستمر، حتى لو كان بنسب بسيطة، لكنها نسب متصاعدة ومستمرة، لتؤكد بدء استرداد الاقتصاد المصرى عافيته كما شرح رئيس مجلس الوزراء د. مصطفى مدبولى خلال المؤتمر الصحفى للإعلان عن النتائج الإيجابية للأداء المالى عام 2018/ 2019 الذى أشار فيه إلى تحقيق فائض أولى 2%، بما يعنى زيادة الإيرادات عن المصروفات بواقع 2%، وتخفيض العجز الكلى إلى 8,2% من إجمالى الناتج المحلي، وارتفاع معدل النمو فى النصف الثانى من العام المالى 2018/ 2019 إلى 5.6%، مما يضع مصر فى مصاف أفضل الدول التى حققت نموا بهذه النسبة، رغم كل ما حدث من توترات اقتصادية عالمية خلال العام المالى الماضى، سواء فى الأسواق العالمية أو فى أسواق الدول المجاورة. هذه المؤشرات تؤكد نجاح الاقتصاد المصرى فى ماراثون الإصلاح الاقتصادى الطويل والعنيف، واقتراب الوصول إلى محطة النهاية فى هذا الـ "ماراثون" الطويل، وربما يكون ما حدث أخيرا من زيادات فى أسعار الوقود والطاقة مؤشرا لذلك، حيث وصلت بعض هذه الزيادات إلى حدها الأقصى، كما حدث فى أثناء تحرير سعر الصرف، ومن المتوقع أن تشهد الأسواق حالة من الاستقرار النسبى القائم على آليات العرض والطلب. نجاح "ماراثون" الإصلاح انعكس بدوره على سوق العمل وزيادة فرص العمل بالأسواق، وبعد أن كانت البطالة قد بلغت 13% قبل الإصلاح انخفضت هذه النسبة الآن لتصل إلى 8.1%، مما يشير إلى توفير أعداد كبيرة من فرص العمل أسهمت فى تخفض معدلات البطالة، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على المواطنين وتحسين مستوى دخولهم، حيث كانت البطالة من أخطر الأمراض الاجتماعية والاقتصادية التى كان يعانيها الاقتصاد المصري، ورغم انخفاض نسبة البطالة بما يقرب من 5%، إلا أن النسبة الموجودة لا تزال مرتفعة، ومن المتوقع انخفاضها خلال الأعوام القليلة المقبلة، مع استمرار نجاح برنامج الإصلاح الاقتصادى واكتمال مراحله. لا أحد يستطيع أن ينكر أن برنامج الإصلاح الاقتصادى كان مؤلما، لكن نجاحه جعله ملهما، ليس لمصر وحدها وإنما لكل الدول الأخرى الطامحة إلى حل مشكلاتها الاقتصادية، بعيدا عن المسكنات والحلول السياسية والشعبوية المؤقتة التى تثبت فشلها عبر كل مراحل التاريخ والشعوب.